فصل: الفصل الثاني‏: البراء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الولاء والبراء في الإسلام (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني‏: البراء:

الأصل الثاني من أصول الإيمان الذي نتعرض له في هذه الدراسة هو (‏البراء‏)‏ وهو الموقف الواجب على كل مسلم تجاه الكفار فماذا يعني هذا الأصل‏؟‏ وما أدلته من الكتاب والسنة؟‏ وما أحكامه وحدوده‏؟‏ واليك بحمد الله تفصيلا لكل ذلك‏:

.أدلة البراء‏ من الكتاب والسنة‏:

قال تعالى في سورة الممتحنة التي نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما أرسل إلى قريش يخبرهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خارج لغزوهم وذلك في غزوة الفتح كما روي البخاري بإسناده إلى علي بن بي طالب رضي الله عنه قال‏: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال‏: «‏انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (‏موضع بين الحرمين بقرب حمراء الآسر من المدينة. معجم البلدان ج 2 ص 335‏‏‏)‏ فإن بها ظعينة (‏امرأة سافرة‏)‏ معها كتاب فخذوه منها‏»‏، فذهبنا تعادي بنا خلينا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة قفلنا‏: أخرجي الكتاب‏.‏ فقال‏: ما معي من كتاب‏.‏ فقلنا‏: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها (‏ضفيرة من الشعر تلف على الرأس‏)‏ فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه‏: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏: «‏ما هذا يا حاطب‏؟‏‏»‏ فقال‏: لا تعجل علي يا رسول الله‏.‏ أني كنت امرءا من قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذا فأتتني من النسب فيهم أن اصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادًا عن ديني‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏: «‏إنه قد صدقكم‏»‏‏.‏ فقال عمر‏: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏: «‏انه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏»‏ [‏البخاري‏]‏‏.‏
قال عمرو- أي ابن دينار- وهو من رواة الحديث‏: ونزلت فيه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة‏: 1‏]‏ وهكذا قال ابن عباس أيضًا أن آيات الممتحنة قد نزلت في حاطب وفي شأن هذه الواقعة كما روي ذلك الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل‏: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة‏}‏ إلى قوله: {والله بما تعملون بصير‏}‏ نزلت في مكاتبة حاطب بن أبي بلتعة ومن معه من كفار قريش يحذرهم (‏رواه الحاكم وقال‏: ‏صحيح على شرط الشيخين‏‏. ولم يخرجاه وأقره الذهبي‏)‏‏.‏
وفي آيات الممتحنة يحذر سبحانه وتعالى من اتخاذ الكفار أولياء، وإلقاء المودة لهم مع كفرهم، وإخراجهم للرسول والمسلمين من مكة ولم يكن للمسلمين ذنب إلا إيمانهم بالله سبحانه وتعالى وقد بين سبحانه أن اتخاذ الكفار أولياء وهم بهذه المثابة من الظلم والعدوان ضلال عن سواء السبيل، ثم بين سبحانه الحكمة من هذا النهي فقال‏: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون} [الممتحنة‏: 2‏]‏ أي أنهم لو ظهروا على المسلمين وتمكنوا منهم فلن يتركوا أو يرحموا أحدًا منهم وهم جاهدون مع ذلك في تكفير المسلمين، فكيف يجوز إذن لمسلم موالاتهم ونصرتهم ومحبتهم‏.‏ ثم اخبر سبحانه أن الأرحام والأولاد لا تنفع يوم القيامة مع الكفر وذلك أن الله يفصل بين المسلمين والكفار يومئذ مهما تقاربت بينهم الأرحام والصلات الدنيوية‏.‏ ثم ضرب الله سبحانه وتعالى إبراهيم والذين معه مثلًا وأسوة للمسلمين فقال‏: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة‏: 4‏]‏‏.‏ أي عليكم أيها المؤمنون أن تأتسوا بإبراهيم والذين آمنوا معه في براءتهم من الكفار وإعلانهم العداوة والبغضاء لهم ما داموا على شركهم وكفرهم‏.‏
وهذه كلها بحمد الله آيات واضحة بينة في وجوب التبري من الكفار ووجوب إعلان البغضاء والكراهية لهم‏.‏
ولقد حذر سبحانه وتعالى في آيات أخرى بأن تولي المسلم للكافر كفر ومروق من الدين كما قال تعالى‏: ‏ {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة‏: 51‏]‏ وقوله‏: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏ نص صريح في كفر من اتخذ نصرانيًّا كان أو يهوديًّا وليًّا له‏.‏ ومثل هذه الآية أيضا قوله تعالى‏: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} [التوبة‏: 23‏]‏ وقال أيضا‏: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه والى الله المصير} [آل عمران‏: 28‏]‏ وقوله‏: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء‏}‏ ظاهر في تكفير من فعل ذلك أي انه قد انحلت عقدته مع الله وأصبح خارجًا كليًّا عن حماية الله وولايته‏.‏ وهذه الآيات وغيرها كثير في القرآن ظاهر في وجوب البراءة من الكفار وعدم جواز موالاتهم بحال مهما كانوا أقارب أو أرحام أو يرجى منهم نصر وتأييد كما قال تعالى أيضًا‏: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله إلا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة‏: 22‏]‏‏.‏
وهذه كلها بحمد الله آيات صريحة واضحة مبينة أنه لا موادة ولا نصرة، ولا موالاة مع من حاد الله ورسوله، ولو كانوا من أخص الأرحام، وأن المؤمنين المخلصين المؤيدين بنصر الله وتوفيقه هم من حققوا هذا الأصل العظيم‏.‏
والآن ما مفهوم تولي الكفار الذي نهينا عنه في هذه الآيات‏؟‏ وماذا يعني على التحديد البراءة منهم‏؟‏

.كيف تحقق البراءة من أعداء الله‏؟‏‏!‏‍‍

.أولًا‏: وجوب الالتزام بالإسلام كله‏:

وذلك أن دين الكفار باطل سواء كان في الأصول والعقائد والفروع من التحليل والتحريم والصبغة والهدي والأخلاق إلا ما وافق الفطرة الصحيحة والشرع الذي شرعه الله لنا ولذلك أمرنا الله أن نقول للكفار إذا دعونا إلى دينهم‏: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} [سورة الكافرون‏]‏‏.‏
وحذر الله رسوله في آيات كثيرة أن يطيع الكفار ولو في شيء يسير مما يدعونه إليه مخالفًا بذلك أمر الله كما قال تعالى‏: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلًا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} [الإسراء‏: 73- 75‏]‏‏.‏ وهذا تهديد عظيم للرسول لو ركن إلى الكفار ولو في شيء قليل‏.‏ وفي هذا المعنى أيضا يقول تعالى‏: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} [هود‏: 112- 113‏]‏ وقال أيضًا‏: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة‏: 49‏]‏ وهذه كلها آيات ناهية للرسول أن يطيع المشركين والكفار ولو في شيء قليل مخالفا بذلك ما أنزله الله إليه وقد هدد الله رسوله هنا بكل أنواع التهديد إن هو فعل ذلك ومعلوم أن الرسول لا يفعل ذلك وإنما هذا تهديد لنا بطريق الأحرى والأولى‏.‏
ولا شك أن طاعة الكفار في شيء من تشريعهم هو من أكبر أنواع التولي لهم، وبالتالي هو أعظم أسباب الكفر والخروج من الدين والتعرض لسخط رب العالمين‏.‏

.ثانيًا‏: وجوب إعلان البراءة من الكافرين‏:

وهذا يستلزمه الأمر الأول فما دام أن للمسلم دينه الخاص المميز فإن لم يلتزم هذا الدين فإنه خارج عنه، وكل خارج عن دين الإسلام الحق بعد إقامة الحجة عليه فهو كافر ولا شك أن للكافر منهجا وطريقا وعقيدة ما في حياته وكل منهج وعقيدة وطريق غير الإسلام فهو باطل ويجب على المسلم البراءة من الباطل كله والكفر بالطواغيت جميعا كما قال تعالى‏: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [البقرة‏: 256‏]‏ والطاغوت هو كل من جاوز حده ودعا إلى عبادة نفسه وتهجم على حق الله في العبادة والطاعة وقال تعالى أيضًا‏: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون‏}‏‏.‏‏.‏ الآيات (‏الكافرون‏)‏ فأمرنا أن نعلن البراءة من الكافرين وآلهتهم‏.‏ وقال إبراهيم لقومه‏: {قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء‏: 75- 77‏]‏، وقال لهم أيضا‏: {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة‏: 4‏]‏ وقد جعل الله إبراهيم لنا أسوة في هذا القول‏.‏
ولذلك فإعلان البراءة من الكافرين وكفرهم هو الأمر الثاني واللازم للالتزام بدين الله وحده واتباع صراطه المستقيم، فمن اتبع صراط الله واهتدى بهدي رسوله وجب عليه أن يعلن مفارقه كفر الكافرين ومخالفة هديهم ودينهم كله‏.‏

.ثالثًا‏: تحريم إعانة الكافر على المسلم‏:

الأمر الثالث الذي تقتضيه البراءة من الكافر وعدم موالاتهم هو عدم جواز إعانتهم على المسلم بحال، فإذا كان المسلم دمه وماله وعرضه حرام على أخيه المسلم، وكان سباب المسلم فسوقا، واقتطاع حقه موجبا للنار وسفك دمه ظلما موجبا للخلود فيها أيضا فإن إعانة الكافر على مسلم خروج من الدين مطلقا وكفر أو ردة والآيات التي صدرنا بها هذا البحث هي في هذا الصدد خاصة كقوله تعالى‏: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة‏: 51‏]‏ وكذلك آيات الممتحنة وقد نزلت كما علمنا آنفا في شأن حاطب بن أبي بلتعة الذي أفشى سر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كفار قريش‏.‏
وبهذا يعلن أن إعانة الكفار على المسلمين لا شك أنه كفر‏.‏ ولم يسمح الله في هذا الصدد بأي صورة من صور الإعانة‏.‏ ولا لأي أحد حتى للمستضعفين في بلاد الكفار أن يقاتلوا مع قومهم ضد المسلمين كما قال تعالى‏: ‏ {ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينًا} [النساء‏: 91‏]‏ والمقصود بالفتنة هنا حرب المسلمين‏.‏